كبرياء الصعاليك
يمنات
ماجد زايد
اقتربت المذيعة من شاب مصري متهم بسرقة بعض الملابس وهي تقول له: أنت متخجلش من نفسك !!
متستحيش وصورتك في الجرايد والتلفزون وكل المصريين يشوفوك !!
أنت ايه لما تسرق تسيء لوطنك وأهلك وشعبك ، أنتو يا شباب متفكروش بربكم ومتراعوش وطنكوا ليه..
التفت الشاب إليها وهو لا يبالي بشيء من كلامها المرصوف بالأخلاق والفضيلة ، رفع عينيه بنظرة يملئها التحدي والإشمئزاز وقال: أنتوا بتوع الاعلام متشعروش بالناس خالص ، مفيش عمل تاني ، انتوا متعرفوش والا ايه ، أحنا رجاله ضروري نكسب فلوس ونصرف ، الفلوس القليلة دي اللي نحصل عليها هي اللي بتضر الوطن ههههههه أمال اللي يلطخوا الملايين وهم قاعدين تسموهم أيه.
كأي إنسان محتوم عليه إرتكاب الجريمة خصوصا بعد التشهير به لابد له أن ينكسر ويتلمس الرحمه ، هذا الشاب لم يأبه لهذه الفرضيات ، تجاهل الجميع وسخر منهم ، لم يخف مما يقولون ، لم يهتم لإستعطاف الناس وإستجداء تسامحهم ، هو فقير بالفعل لكنه يتعامل مع العالم بطريقة الازدراء ، أمثال هذا الشاب في عالمنا كثير ، في كل نواحي الحياة يوجد أشخاصاً نسميهم صعاليك أو مشردين ، يعيشون دائماً في هامش الأحداث ، لا يتفاعلون مع المتغيرات السياسية ولا يغريهم معرفة المستجدات ، لا يزعج تفكيرهم أحوال من سقطوا او هزموا او ماتوا ، لا يتفاعلون مع الناس في قضاياهم الطبقية ، يميلون للسخط على قانون المجتمع الطبقي العنصري ، هم أشخاص لا يملكون شيئاً ولا يريدون شيئاً.
ليست السرقة والجوع والتشرد غايتهم ، بل الحرية التي تجعلهم يعيشون بلا قيود ، بلا قوانين أو حدود ، تلك الحياة الهادئة ، ذلك السلام النفسي الناشئ عن حرية تامة، لأنك ليس لديك ما تخسره.
فلسفة الصعاليك بسيطة للغاية ، لا تحمل هذا الكون على كاهلك , سيعيق حركتك ، لا تجعله في لسانك ، بل تخلص منه ومن الأثقال وعش كما تريد.
في ثقافتنا الرائجة وفي معاجمنا اللغوية ينظر الناس للشباب الكادحين الذي لا يملكون شيئاً صعاليك ، شباب لا يتوقفون عن التسكع في الشوارع بلا مأوى ، يجوبون الشوارع دون عمل او مصدر رزق ، فقط يعيشون على السرقات أو هكذا يظنهم الناس ويظنون حياتهم.
بعض هؤلاء الصعاليك في فترات زمنية متعاقبة ومتداخلة يصيرون ذو شان ومال وسلطة بين الناس ، يحترمهم الناس ويوقرونهم بخلاف ماضيهم الهامشي ،بعض الاقدار تصنع لهم نصيباً منها , لعبة الحظ إستجابت لهم. وإن يكن , الصعاليك بعدما يصيرون أشخاصا مهمين في مجتمع لم يكن يأبه لوجودهم لا تتغير نظرتهم في الحياة ، منطقهم القديم لا يتغير ، لا يهتمون للمغريات ولا تأخذهم الشهرة في غرورها ، الصعاليك الأغنياء هم أكثر الناس خيراً وحباً للناس والفقراء والمشردين ، الصعاليك المشهورين هم أكثر الناس وفاءا لرفاقهم المشردين ، حتى انهم لا يستسيغون حياة المثالية في شكلها الرائج ، لا يتقيدون بحدود الرسميات ولا يواكبون الاستايلات ولا يتقمصون الرقي وحياة النبلاء ، يعيشون مع طبقات المجتمع العنصرية والمثقفة والراقية بطريقة مليئة بالإزدراء والسخرية , لا يطيقون المثاليات المركبة أطلاقاً.
نماذج يمنية لرفاقنا الصعاليك:
الروائي اليمني عبدالودود المطري كان واحداً من المتمردين على طريقة حياته المفروضة ، بالرغم من كونه كاتباً روائياً عظيماً الا انه عُرف في حياته بالصعلكة وعدم الإلتزام ، لم يمنح ذلك القدر من الشهرة في التاريخ لأنه لم يكن يهتم بتسويق نفسه واعماله ، كان المطري يكتب عن سيرة حياته بأنه خريج جامعة بدرجة مقبول ، انا بالكاد أصبحت مقبول في هذه الحياة ، عن المطري لا أحد يكتب او يتذكر لكن معظم الإدباء الذين إشتهروا بعده كانوا يتقمصون طريقته السرديه ولا زالوا حتى الأن يتقمصونها ويتجاهلون خالقها ، المطري توفي في السبعينات ووَرث مجموعة حكايات وسيرة ذاتية مكتوب عليها انا بالكاد أصبحت مقبولا.
نماذج عن صعاليك عرب:
كاتباً مصرياً عرف بكونه روائياً مبدعاً ، ألبير قصيري أو فولتير النيل حظي بحياة مليئة بالرفاهية إلا أنه اختار حياة الصعلكة ، أو حياة اللا قيود ، عاش معظم حياته في أحد أرقى الفنادق في باريس ، في غرفته لم يكن يملك سوى الملابس المبعثرة في أرجاء الغرفة ، لم يكن يملك سيارة خاصة ودائما ما كان يقول: لست في حاجة لسيارة لأثبت وجودي على الأرض.
كل روايات قصيري أبطالها مجموعة من الصعاليك البسطاء، الذين يعيشون في فقر ولا مبالاة مثله تمامًا، فعلى الرغم من نجاح رواياته وترجمتها للعديد من اللغات، وعلى الرغم من قربه من ألبير كامو وجينيه وكبار كتاب فرنسا آنذاك، إلا أن كسله ولا مبالاته جعلته لم يكتب طيلة حياته غير ثماني روايات.
كتب قصيري رواية “شحاذون ونبلاء”، قُدمت كفيلم مصري عام 1991. الحكاية تدور حول ثلاثة شباب أحدهم ترك عمله في الجامعة احتجاجا على تزوير التاريخ ، عاش بعدها متسكعاً في الطرقات , الطرقات التي يعرف تفاصيلها تماما ، وصاحبيه ايضاً كانا يعيشان نفس حالته من الإهمال.
يحدث أن تحدث جريمة قتل لإحدى العاهرات في محيط حياة هؤلاء الثلاثة ، ويحاول وكيل النيابة ترهيبهم تارة وترغيبهم تارة لمساعدته في التحقيق، لكنهم لا يأبهون، يندهش وكيل النيابة من عدم احترامهم للقانون، وعدم تقديرهم للقيم التي يعتقد أنه يدافع عنها.
وفي الحقيقة هؤلاء الصعاليك يعتقدون أن هذا العالم متهالك تحكمه عصبة من الأنذال، لذلك فضلوا عيشة الحرية والصعلكة على التقيّد بقيم كاذبة ومبادئ مزيفة.
هذه النماذج الحياتية الواقعية لم تكن هي المتفردة بأسلوب الحياة الهامشية أو المتداعية ، هذا الشكل موجود في كل الازمنة والتواريخ والبلدان والثقافات والجغرافيات ، من عروة بن الورد في تاريخ الشرق العربي الى روبن هود في تاريخ الغرب الغربي.
التسبب البدائي للصعلكة:
سلك الصعلكة عبر التاريخ والجغرافيا والمناطق يتضمن معظم الأشخاص المتمردين على نظام المجتمع والقبيلة والدولة , والعالم ككل ، قديماً كانت سيوفهم تقطر دماً ورؤسهم على أكفهم , يفترشون الصماء ، يداعبون الوحوش ، يسكنون الصحارى والجبال والوهاد والتلال.. أطوار حياتهم تعد غريبة كغربتهم تماماً .. تشكلوا قديماً على هيئة مجموعات متفرقة وأحيانا مجموعات متباينة ، جمعت بينهم الغربة وربطهم التشرد والضياع ..تعانقت ظروفهم ومصائبهم ..توحدوا في الإغارة واختلفوا في الغاية والإختلاف بينهم نادر.. ذلك لان “المصائب يجمعن المصابينا”.. الصعاليك في الماضي لجأوا لتشكيل أنفسهم كما لو انهم غزاة ومجرمين بدوافع مختلفة لكنها في الأساس ليست لأجل السلطة والشهرة والنزوة البشرية.
القبيلة العربية في الجاهلية كانت أكثر وأعمق إيماناً بأنسابها واحسابها، لأنه العنصر الاساسي المقدس لديهم . هذا الأمر أفرز التفرقة العرقية والعنصرية والاجتماعية ، وذلك كان اساسا اجتماعيا لابد منه للتفرقة بين العربي وغير العربي بل للتفرقة بين طبقات القبائل ذاتها حيث يقوم على ذلك نظام يحدد الوجود الاجتماعي للجنسيات الاخرى او من يسمونهم (أغربة العرب) من الموالي والعبيد.
هذا التعصب القبلي أوجد طائفة عرفت بـ” الخلعاء ” وهم الذين تمردوا على نظم القبيلة وكثرت جرائمهم وجرائرهم بحيث لم يمكن للقبيلة الدفاع عنهم فتركتهم وشأنهم وتخلت عنهم , ما افقدهم هويتهم الاجتماعية التي لا يعرفون الا بها وساروا بعدها يهيمون في الارض لا يحجزهم حاجز عما يريدون فعله..
هؤلاء الذين تشردوا أو ما كان يطلق عليهم في كتاب الأغاني بـ خلعاء – أغربة – موال وعبيد – شذاذ آفاق. انتظموا مع بعضهم في سلك الصعلكة وشمل قرناءهم وجعل منهم غزاة للقبائل التي نفتهم.
جاء في كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني سرداً تفصيلياً وقراءة شاملة عن حياة الصعاليك ، ذكر فيه أن الاتجاه الاجتماعي الانساني المتمثل في اطعام الجياع واقالة عثرة الفقراء والمحتاجين المعدمين كان غاية الصعاليك .وهؤلاء يمثلهم عروة بن الورد – وهو سيدهم وابوهم كما يقولون – وبالتأكيد هذه الظاهرة تقرأ هذا النص الوارد في الكتاب كمثال تدليلي على حياتهم قديما , يقول فيه: أجدب ناس من بني عبس في سنة اصابتهم فأهلكت اموالهم واصابهم جوع شديد وبؤس فأتوا عروة بن الورد فجلسوا امام بيته فلما بصروا به صرخوا وقالوا – يا ابا الصعاليك اغثنا- فرق لهم وخرج ليغزوا بهم ويصيب معاشا فنهته امرأته عن ذلك لما تخوفت عليه الهلاك فعصاها وخرج غازيا حتى انتهى الى بلاد بني القين فأغار عليهم فأصاب هجمة عاد بها على نفسه واصحابه “..
وفي سياق أخر يعقب الأصفهاني بقوله: نصطحب الصعاليك ليحدثونا في صراحة –حسب منهجهم في الحياة – عن عزة النفس وقوة الشكيمة والإباء والكبرياء المتعالي على كل شيئ رغم الجوع والفقر والحرمان .. ليس الجوع في شرعتهم هو الذي يقلص الامعاء ويفتلها كما تفتل الحبال وليس هو الذي يقعد الانسان عن الحركة ويفقده وعيه , كلا لا يعتبر ذلك جوعا في عرفهم وإنما الجوع الحقيقي هو ذلك الذي يقلص الشخصية ويمحو الكرامة وينسف قدر الانسان ومكانته في مجتمعه..
صعاليك أقصى الغرب:
في التاريخ الغربي يوجد تاريخ من هؤلاء الصعاليك الذين إزدراهم الناس وتركوهم في الفلاة مشردين ، تشي جيفارا كان شابا يعمل بدراجة نارية يقضي حياته ببساطة وهدوء الى أن دفعه بؤس الناس وجوعهم للثورة والغزو , تماما كما فعل عروة بن الورد حين جاء الفقراء.
أيضاً روبن هود تعلم من أبيه كيف يكون حراً بكبرياء لا يقبل الظلم ولا يسكت عنه ، ترك المناصب ورفض الإغراءات وذهب ليتبناه راع كبير في السن ، عاش معه بهدوء وسلام الى أن جاء الظلمة من السادة وأحرقوا قبيلة الرجل الذي تبناه ، بعدها شكل مجموعة الصعاليك الخاصة به وغزا بها الاوغاد من البيوقراطيين.
الكلام لا ينتهي عن هؤلاء الرفاق ، حياتهم تدعو للتقمص ، حياة السلام واللامبالاة ، لا شيء في هذا العالم يستحق فعلا ، الأشياء تتداعى والفوضى هي من تحكم الكون.
شاعر صعلوك وكلب الست:
الشاعر المصري الصعلوك احمد فؤاد نجم سمع بحادثة وقعت في منطقة الزمالك بعد ثورة 1952 ، حادثة نشرتها الصحافة المصرية حينها ، مجموعة شباب كانوا يرسمون على أحد جدران شوارع الزمالك بالقرب من فيلا أم كلثوم، وكان كلبها الذي اطلقت عليه اسم “فوكس” يمشي بالقرب من الشباب، وفجأة قام الكلب بالاعتداء على شاب بسيط يدعى إسماعيل وعضه في ساقه ، وبسرعة أخذه زملاؤه وحرروا محضراً ضد صاحب الكلب ولم يكن أحدهم يعلم أنه كلب أم كلثوم. قام ضابط البوليس بتحرير محظر ضد مالك الكلب ، وفجأة جاء ضابط يحمل رتبة أعلى وقام بحجز الشاب إسماعيل لمدة أسبوع حتى يتنازل عن المحضر الذي حرره ضد “كلب ام كلثوم”، هذه الواقعة دفعت نجم لزيارة بيت إسماعيل في منطقة وراق العرب واستفزه وضع إسماعيل الشاب البسيط الذي تم إهانته والإعتداء عليه مقابل التنازل عن المحضر ، على إثرها كتب نجم قصيدته العظيمة “كلب الست”
قال فيها : ” في الزمالك.. من سنين.. وفي حمى النيل القديم.. قصر من عصر اليمين.. ملك واحدة من الحريم ”..
قصيدة من أهم القصائد التي تثبت شجاعة نجم حتى وإن كانت خصومته مع كوكب الشرق أم كلثوم، رغم حبه لها حسب كلامه الا أن نجم من الأشخاص الذين لا يهتمون لاحد ، بعدها حققت القصيدة رواجا واسعا وإحراجا كبيرا لأم كلثوم التي سعت لسحب القصيدة بكل الأساليب ولم تستطع.
هذا النوع من البشر لا يجدي معهم شيء.
ختاماً..
شيء أخير اريد قوله وهي أسمى ما قد يؤمن به الصعاليك ويعيشون على أساسه ، لا شيء يستحق العناء ، الحياة بسلام هي أقصى احلام البسطاء ، ولكن إن حدث الظلم وراج الأوغاد وتحكم المجرمون ومات الفقراء من الجوع فلا شيء يبقى في سلام ولا هدوء يمكنه كبح إرادة الأشخاص الذين لا يملكون شيئاً ، الظالمون يعلمون ذلك جيداً ، لا تتحدا من لا يخشى على شيء ولا يملك شيء ولا يريد شيء.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.